لو جاء المسيح في زماننا!!
كتب د. محمد عثمان الخشت
أستاذ فلسفة الدين- رئيس جامعة القاهرة- عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
جاء في إنجيل لوقا: (.. ولكن متى جاء ابن الإنسان، ألعله يجد الإيمان على الأرض؟).
عندما قرأت هذ السؤال، شعرت برغبة عارمة في الإجابة عليه، وأول ما جاء في ذهني أن تعريف الإيمان قد نختلف فيه، وقد يتصارع البعض عليه حتى داخل الديانة الواحدة، فهل أفرض مفهومي عن الإيمان على الآخرين ونظل مختلفين؟ أم ألجأ إلى #المسيح لكي يساعدني في الوصول إلى معيار؟
اخترت البديل الثاني؛ فماذا وجدت؟ وجدت المسيح يقول كما روى إنجيل متى : (احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة. من ثمارهم تعرفونهم).
هكذا تحدث المسيح عن المعيار الحاسم :(من ثمارهم تعرفونهم).. إذن لو جاء المسيح ووجد ثمارنا تتنوع بين الكراهية والحقد والغش والإرهاب والتطرف ورفض الآخر وأخذ أموال الناس بالباطل، والتعدي على منابع الثروة في الدول الأخرى، فماذا يقول؟ يقول :(ليس كل من يقول: يا رب يا رب، يدخل ملكوت السموات)، ويُصرّح لهم: (إنّي لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم).
وسوف يؤكد المسيح جازما أننا نبني إيماننا على الرمل؛ فالعمل معيار الإيمان.. يقول: (وكل من يسمع أقوالي هذه ولا يعمل بها يُشبّه برجل جاهل بنى بيته على الرمل. فنزل المطر وجاءت الأنهار وهبّت الرياح وصدمت ذلك البيت، فسقط. وكان سقوطه عظيماً).
هنا لا نجد الإجابة فقط على سؤال الإيمان، بل نجد الإجابة عن سؤال التقدم والتخلف أيضا، ونعرف لماذا نحن دون التقدم الحضاري. إننا نأخذ من الإيمان الشكل والقشور وما تنطق به الشفاه، ولا نأخذ الأعمال، ولذا تأتي ثمارنا سيئة كما نراها في أرض الواقع. لكننا نصر على أننا الأفضل على الرغم من أن ثمارنا علقم، نزعم أن شجرتنا عظيمة بين الجماعات والأمم، على الرغم من أن ثمارها التخلف، نزعم أن الله يحبنا على الرغم من أننا نكره الآخرين لاختلافهم عنا في الثقافة أو اللون أو الجنس أو العرق أو حتى المذهب العقائدي! جاء في إنجيل متى : (الشجرة الرديّة فتصنع أثماراً ردية. لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثماراً ردية ولا شجرة ردية أن تصنع أثماراً جيدة).
لو عاد المسيح ووجد ثمرتنا ليست عنبا ولا تينا، فماذا يقول عن شجرتنا؟ يجيبنا إنجيل متى : (هل يجتنون من الشوك عنباً أو من الحسك تيناً. هكذا، كل شجرة جيّدة تصنع أثماراً جيدة). إن شجرتنا شوك وحسك، لكننا نخادع أنفسنا (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) (البقرة: 9).
ماذا يقول المسيح لو عاد ورأى تجليات الكثير منا في مجالس النميمة في البيوت، وأحاديث الإثم في الفضائيات، وعلى على الفيس بوك وسائر مواقع التواصل الاجتماعي.. قذفا وسبا، وتسرعا في الحكم على الناس، وتدنيا في الحوار، والابتزاز، وادعاء الفضيلة؟
ماذا يقول المسيح لأصحاب منابر تصيد عيوب الآخرين؟
ماذا يقول لأصحاب منابر الفتوى في كل شيء في الدنيا والدين؟
ماذا يقول المسيح لمن يزعم أنه يؤمن به وهو سَبّاب ، متسرع لا يتثبت من معلوماته، ولا يتأكد من صحة الأخبار؟
ماذا يقول لمن يسير مع قطعان الفيس بوك وتويتر دون أن يتحقق من المصادر الأصلية للخبر، ودون أن يتأكد من تنوعها ومدى يقينها؟
ماذا يقول المسيح عن أصحاب كلمات الحقد، ومنصات جلد الآخرين، وأصحاب أسلوب قتل الشخصية؟
ماذا يقول المسيح عنا وعن كل من يزعم الإيمان به (حتى وإن اختلفت طريقة الإيمان)؟ هل سوف يرضى عنا؟ أم سوف يوبخنا؟
يجيبنا المسيح: (لا تَدِينُوا لِئَلاَّ تُدَانُوا. فَبِمَا تَدِينُونَ تُدَانُون، وبِمَا تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُم. مَا بَالُكَ تَنْظُرُ إِلى القَشَّةِ في عَيْنِ أَخيك، ولا تُبَالي بِالخَشَبةِ في عَيْنِكَ؟ بَلْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيك: دَعْني أُخْرِجُ القَشَّةَ مِنْ عَيْنِكَ، وهَا هِي الخَشَبَةُ في عَيْنِكَ أَنْتَ؟ يا مُرائِي، أَخْرِجِ الخَشَبَةَ أَوَّلاً مِنْ عَيْنِكَ، وعِنْدَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا فَتُخْرِجُ القَشَّةَ مِنْ عَيْنِ أَخِيك).
هكذا يوبخنا المسيح وهكذا ينصحنا، أما نحن فلا نزال ندين الآخرين، ونكيل لهم، وننهش في لحومهم، ونتداول الشائعات عنهم، وننظر إلى عيوبهم، ونرى القشة في عيونهم، ولا نهتم بالنظر في عيوبنا وإصلاحها، بل نهتم بعيوب الآخرين ونترك الخشبة في أعيننا، نحن كما قال السيد: مراؤون! نصدر الأحكام بكل سهولة عن الآخرين دون أن نتحقق منها، ودون أن نعرف حقيقة دوافعهم وظروفهم، وندون أن نقدر ضعفهم، نتعدى على اختصاص الحكم العدل الديان المطلع على الباطن والظاهر (رب العالمين)!
نحن نضخم من أخطاء الآخرين، ونركز الضوء على كبواتهم وهفواتهم، وكأننا معصومون لا نخطأ ولا نزل، وكأننا ملائكة في الملأ الأعلى! وهل الملائكة – أيها الملائكة على الأرض- يكذبون ويتعالون ويتكبرون ولا يرحمون؟!
هنا يظهر محمد عليه الصلاة والسلام فجأة راويا عن ربه :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 12).
ويعود فيؤكد في حديثه :”لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ”. حسنه الترمذي وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
وهنا يستمر اللحن المقدس ويعود المسيح قائلا :(إنّي لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم)”.
د. محمد الخشت
أستاذ #فلسفة_ الدين_ رئيس جامعة القاهرة-
عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
#القرآن_السنة_المتواترة
#الخطاب_الديني_الجديد
#جامعة_القاهرة
بواسطة دكنور محمد الخشت … نشر في جريدة الأهرام