مقالات كبار الكتاب

د. محمد عثمان الخشت يكتب .. لسورة الكهف معانٍ أخرى (7)

كتب د. محمد عثمان الخشت
أستاذ فلسفة الدين- رئيس جامعة القاهرة- عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
“ربما يظن البعض أن تسمية سورة الكهف يرجع إلى أن قصة أصحاب الكهف هي أهم قصة في السورة مقارنة بقصة صاحب الجنتين، وقصة العبد الصالح وموسى، وقصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج.. وفي تصوري أن تلك القصص كلها على المستوى نفسه من الأهمية، وكلها يمكن أن تفهم في ضوء رمزية الكهف المتغيرة.
إن رمزية الكهف لا تقف عند قصة أصحاب الكهف وحدها. لكن معنى الكهف ورمزيته تتغير وتختلف من قصة إلى أخرى.. رمزية الفتية أهل الكهف مادية وواضحة ومباشرة، بينما رمزية الكهف في القصص الأخرى رمزية عقلية يتركها القرآن لك لكي تتدبرها وتستخرجها بنفسك.. فتسمية السورة بهذا الاسم لم تأت عبثا.
هناك كهف الفتية المادي كجزء من الطبيعة، وهناك كهوف أخرى عقلية معنوية تتعلق بكهف العقل المغلق وكهف ضيق الرؤية وأحاديتها.. وتتعلق بكهف العقل الذي يفكر بمنطق الأسطورة ولا يفكر بمنطق البرهان.. وتتعلق بكهف الاكتفاء بظاهر الأشياء في العالم الخارجي، وتتعلق بكهف الانخداع بحقيقة الدنيا.. هناك كهف عقلية صاحب الجنتين، وهناك كهف موسى الواقف عند حدود الظاهر، وهناك كهف يأجوج ومأجوج الذي يحرك كل أيديولوجيات الاستعمار.
كهف الفتية الذين آمنوا بربهم، هو كهف حماية المؤمنين بالحقيقة.. كهف السكينة والراحة والاطمئنان.. (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً)، (الكهف:16).. أي يهيئ لكم فيه سعة ومعاشا وخلاصا، فتجدون فيه ما يرفق بكم وما ترتفقون به في باقي حياتكم.
هذا هو الكهف بالمعنى المادي كجزء من الطبيعة، لكن هناك كهوفا أخرى نجدها سارية في السورة كلها.. منها: كهف “العقل المغلق” الذي يعيش فيه طوائف من البشر.. إنه كهف العقل المغلق بلا نوافذ: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا)، (الكهف: 57).. ولذلك تجد صاحب العقل رافضا للتجدد والتجديد، وهو لا يملك هذه الإمكانية أصلا، هذه الخاصية غير موجودة فيه، إنه عقل مغلق.. عليه أغطية بعضها فوق بعض، إنه عقل بلا نوافذ، حتى نافذة الأذن لا تعمل لما بها من ثقل وحمل، أو كما يقول عبد الرزاق في تفسيره: “يَسْمَعُونَهُ بِآذَانِهِمْ، وَلَا يَعُونَ مِنْهُ شَيْئًا كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي تَسْمَعُ الْقَوْلَ، وَلَا تَدْرِي مَا يُقَالُ لَهَا”، (تفسير عبد الرزاق: 2/ 50).
إنه كهف التوهم.. كهف الانحراف العقلي عن الحقائق.. كهف الأسطورة وغياب منطق البرهان.. كهف الكذب الذي يبدو فيه الحق باطلا.. ويبدو فيه الزيف حقا: (هؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ۖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، (الكهف: 115).
إنه كهف العقل المغلق الغافل عن أصل الوجود ومبدعه، السائر وراء الهوى، الذي يعيش حالة ضياع وتفريط نتيجة انحرافه عن إدراك الحقيقة القصوى والنهائية للوجود: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)، (الكهف: 28)..
إنه كهف العقل المغلق الذي لا يمكن إقناعه؛ إنه عقل مجدول بلا نظام، والحوار معه يتحول إلى جدل بلا نهاية، حيث لا توجد أية أرضية مشتركة، وإذا وجدت فإنه يأخذك بعيدا عنها نحو مساحات الجدل، وهذا هو النوع الذي قالت فيه السورة الفريدة: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شيء جَدَلًا)، (الكهف: 54).
وبجوار كهف العقل المغلق، هناك كهف “ظاهر العالم الخارجي”.. إنه الكهف الأكبر للعقول. إن كهف العالم الخارجي غير مباشر في السورة.. لم تسم السورة العالم الخارجي كهفا بطريقة حرفية، لكن تلاحظ من أول السورة إلى آخرها.. أنها تتحدث عن الانخداع بظاهر العالم الخارجي، الانخداع بزينته.. الانخداع بأنه ثابت لا يتغير.. بينما الحقيقة أنه متغير وإلى زوال.. تارة بشكل عاجل.. وتارة بشكل آجل باعتبار النهايات الحتمية.. والعيب ليس في العالم الخارجي.. إنما العيب في طريقة إدراكه.. هنا كأن الكهف هو ضيق الأفق وقصور التفكير في طريقة النظر إلى العالم.. هنا العقل الجامد أحادي النظر يصبح هو الكهف ذا الفتحة الواحدة والذي لا يرى مَن بداخله العالم الخارجي إلا من زاوية واحدة.. زاوية الظاهر.
هناك كهف عقلية صاحب الجنتين، الذي يفكر في إطار ما يراه “هنا والآن”، ويعتقد أن الزمن مجمد عند هذه اللحظة، وأن الحاضر دائم غير خاضع للتغير: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا. وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)، ((الكهف: 35-3). إنه وهم الثبات الغافل عن أن ” كل شيء يسيل ولا شيء يبقى” كما قال هيرقليطس، أو كما قال القرآن الكريم: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، (الرحمن: 29).
وهناك كهف موسى عندما كان واقفا عند حدود الظاهر: (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا)، (قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا)، (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).. (الكهف، الآيات:71- 74 – 77).
وهناك كهف يأجوج ومأجوج الذي يحرك كل أيديولوجيات الاستعمار في الاستحواذ على مقدرات الأمم الأخرى وإفساد حياتها والتعدي على أرواحها وممتلكاتها ومواردها: (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ)، (الكهف: 94).
إن رمزية الكهف تسير من أول السورة إلى منتهاها، ويتغير معناها وتختلف دلالتها باختلاف الموضع والسياق والمقصد. ويمكنك أن تستخرج كهوفا أخرى.. فقط أخرج وانظر من بعيد، وتدبر.. حتى تتحرر! “.
د. محمد الخشت
أستاذ #فلسفة_ الدين_ رئيس جامعة القاهرة-
عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
بواسطة دكنور محمد الخشت … نشر في جريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى