
بقلم د. محمود السعيد .. نائب رئيس جامعة القاهرة
في أحد الحوارات الصحفية منذ فترة، طُرِح عليّ سؤالٌ مفاده: “هل تعتقد أن المستقبل قد يشهد حلول الآلة أو الروبوت مكان المعلم في المدارس أو الأستاذ في الجامعات؟” وكانت إجابتي أن هذا الاحتمال وارد جداً مع ما نشهده في عصرنا الحالي من قفزات كبيرة ومتسارعة في مجال التكنولوجيا، والتي تتزامن مع دخولنا عصر الثورة الصناعية الرابعة، وما يتبعها من ملامح الثورة الخامسة، وأهم ما يميزها هو الدمج بين الإنسان والآلة في أداء مختلف الوظائف والمهام.
ثم بادرني المحاور بسؤال أكثر عمقًا: “هل ترى في هذا التطور مصلحة للعملية التعليمية أم أنه قد يكون ضدها؟” فأجبته بأن أي تطور، بطبيعته، لا يخلو من مزايا وعيوب، والمهم في الأمر هو مدى قدرة الإنسان على تطويع هذا التطور لتعظيم الاستفادة من مزاياه، مع بذل مزيد من الجهود لتقليل مخاطر التطور أو إصلاح عيوبه بما يخدم صالح الإنسان ويحقق التوازن المطلوب.
وعندما استفسر عن أبرز المزايا المحتملة لهذا التحول، فكان ردي أنه من المعلوم أن الآلات والروبوتات تمتلك قدرة هائلة على استيعاب كميات ضخمة من البيانات والمعلومات، ويمكن برمجتها لتدريب الطلاب على هذه المعارف بكفاءة وسرعة تفوق القدرات البشرية التقليدية. كما أن من أبرز ما تقدمه هذه الآلات هو الحياد والعدالة في عمليات التقييم؛ فهي قادرة على إنتاج اختبارات متنوعة وبأشكال مبتكرة، وتنفيذها دون تحيز أو تأثر بعوامل شخصية، مما يعزز من مصداقية العملية التعليمية. وفي رأيي الشخصي أن دور الإنسان لن يُلغى في هذا الإطار، بل سيتحول إلى دور أكثر تخصصًا وأهمية، يتمثل في تغذية الآلات بالمعلومات الصحيحة، وتعديل أي خلل أو انحراف معرفي قد تتعرض له، إضافة إلى مسؤولية الإشراف على تشغيلها وصيانتها. وبالتالي، سيبقى للمعلم دور محوري في إدارة وتوجيه هذه المنظومة، وإن تغيّر شكله ومضمونه عن الدور التقليدي.
لكننا لا نستطيع تجاهل العيوب الكامنة في هذا النموذج المتطور في عملية التدريس وهو غياب المدرس أو الأستاذ البشري. فالعلاقة الإنسانية التي كانت تتشكل بين الطالب ومعلمه عبر نموذج التعليم الحالي، والتي تلعب دورًا محوريًا في بناء شخصية الطالب وغرس القيم والسلوكيات السليمة فيه وإعداده للمجتمع ليسهم في تنميته، قد تختفي أو تضعف بدرجة كبيرة. كما أن التدريس بوصفه وظيفة إنسانية عريقة، تمثل واحدة من أقدم وأسمى المهن، قد يتراجع لصالح وظائف جديدة ترتبط بإدارة التعليم الآلي والإشراف عليه، مما يشكل خسارة وجدانية وثقافية يصعب تعويضها.
ورغم هذه العيوب، فإنني أؤمن بضرورة النظر إلى الجانب المشرق من أي تحول تكنولوجي في أداء المهام والوظائف، كما في حالات أخرى عديدة. فعلى سبيل المثال، في ميدان الرياضة، أثبت تدخل التكنولوجيا، مثل استخدام تقنية حكم الفيديو المساعد (VAR)، أنه قادر على تخفيض أخطاء التحكيم إلى أقل قدر ممكن، وهي الأخطاء التي طالما أثارت الجدل بين المشجعين، وأحيانًا كانت حجة الفرق المهزومة لتبرير إخفاقها. هذه الأخطاء سوف تصل إلى أدنى مستوى ممكن عندما تحل الآلة بالكامل محل الإنسان في عملية التحكيم الرياضي. وفي هذا السياق، فإن الاعتماد على الآلة سيعزز من العدالة ويساهم في تقليل التحيّزات، وهو ما يمكن أن ينطبق أيضًا على باقي المجالات الأخرى بما فيها المجال التعليمي إذا أُحسن استخدامه.
وأختم مقالتي بالتأكيد على أن التطور التكنولوجي ليس هدفًا في حد ذاته، بل هو وسيلة للارتقاء بحياة البشر ويمكن توظيفها لخدمة الإنسان والنهوض بالدول والمجتمعات. وسيحدث هذا بكل تأكيد عندما يكون الإنسان هو العقل المدبّر والضمير الحي الذي يدير هذا التطور نحو تحقيق الأهداف والغايات.