ما بعد الزلزال
بقلم عبدالحليم قنديل
فى جملة المآسى التى رافقت وأعقبت زلازل شرق المتوسط الأخيرة ، ظهرت مئات القصص الإنسانية من تحت الأنقاض ، بينها حادثة الأم الشابة ، التى فاجأها مخاض الولادة تحت الردم ، وسلمت وليدها لفرق الإنقاذ التى وصلت إليها ، ثم أسلمت الروح إلى بارئها ، وتركت وليدها لحياة تنتظره بآلامها وآمالها .
وربما تكون فى قصة الوليد الناجى ، وفى سواها من المفارقات المماثلة ، ما قد يوحى بتغييرات جديدة فى أحوال المنطقة ، بعد أن تنتهى مشاهد الرعب كلها ، ويحصى الناس فى تركيا وسوريا إجمالى الخسائر النهائية ، وهى مرشحة ـ للأسف ـ لارتفاع مفزع ، قد يجعل ما جرى أم الكوارث لحجر وبشر سوريا بالذات ، التى شهدت حشدا هائلا من تزاحم المآسى الحربية ، سقط فيها مئات الألاف من القتلى ، ودمرت فيها مئات المدن والقرى ، فى صدامات دامية ، بدت بواكيرها موحية بثورة ديمقراطية فى سوريا ، ثم تحولت سريعا إلى ثورة على سوريا ، شاركت فيها أطراف محلية وإقليمية وإرهابية ودولية ، وارتكبت فيها أفظع الجرائم ، وفرضت كافة ألوان الحصار ، وضاعت وحدة الأراضى السورية ، وتكاثرت الجيوش والميليشيات الأجنبية ، ووقعت سوريا كلها تحت انتداب واحتلال متعدد الجنسيات ، وبدت الأطراف ذات الأصل السورى مغيبة تابعة مرتهنة ، وربما لا حيلة لها فى الزلزال السياسى والحربى الكافر ، تماما كما بدت هذه الأطراف كلها قليلة الحيلة أو معدومة الحيلة ، وهى تواجه زلازل الطبيعة الأخيرة ، التى لا حيلة لأحد ، حتى فى توقع مواعيد حدوثها ، سواء فى مناطق أوسع ، يفترض أنها تحت سيطرة نظام دمشق ، أو فى شمال غرب سوريا ، حيث اجتمع ملايين النازحين خوفا ، فى مخيمات ذابت فى عواصف وأمطار الشتاء الثلجى ، أو فيما تبقى قائما من مبان ، جاء الزلزال الأخير ليعصف بآلاف منها ، ويلحق عشرات الآلاف من سكانها بسابقيهم من ضحايا حروب لا ترحم .
هذا المشهد المقبض القاتم ، جعل سوريا تبدو ، وكأنها الضحية الأولى للزلزال ، برغم أن الأرقام المعلنة على علاتها ، تجعل تركيا فى وضع الضحية الأكبر ، فالزلزال وتوابعه المهلكة ، اجتاح عشر محافظات تركية ، لكن تركيا على عظم مصابها الأليم ، بدت فى حال مختلف ، فتركيا دولة منتظمة المؤسسات ، وعندها إمكانات وخبرات إنقاذ كبيرة ، ويتدفق عليها دعم دولى وإقليمى فعال ، بينما سوريا متلاحقة النكبات ، لا تحظى بسلطة موحدة ، ولا بعنوان بريد جامع ، يمكن أن تصل إليه معونات الإنقاذ ، اللهم إلا فى الأراضى المنسوبة لنظام دمشق ، الذى تلقى اتصالات من دول عربية وأساطيل دعم جوى ، خاطرت بكسر قوانين حصار واشنطن وعقوباتها لسوريا ، وقدمت بعض ما تستطيعه من عون إنقاذى وطبى وغذائى ، لا يبالى بقانون “قيصر” ولا بقانون “الكبتاجون” ، بينما بدا الحس الشعبى العربى عموما ، متحفزا لمساعدة شعب سوريا الشقيقة فى مواجهة توابع الزلازل ، وعلى نحو ما جرى فى ساحات عربية متعددة ، وأيا ما كان موقف النظم الحاكمة فيها من النظام السورى ، ومن دون فرص للوصول إلى منطقة شمال غرب سوريا ، التى حجز عنها أى عون مبكر ، بسبب إغلاق المعابر التركية ، وسوء أحوال الطرق والظروف الجوية ، وحتى إشعار لاحق ، فتحت فيه المعابربعد فوات أوان انقاذ ما تيسرمن حيوات البشر المنكوبين .
والسؤال الذى يبقى بعد سقوط الضحايا بالآلاف ، هل تكون فى المحنة المزلزلة بعض عواقب المنح ؟ وهل تفتح المعاير المسدودة فى الأزمة السورية برمتها ، وهل يصل السوريون بعد الزلزال إلى كلمة سواء ، وتعود لسوريا وحدتها الترابية والسياسية ، وتدرك الأطراف المتحاربة كلها ، أن لا أحد كسب من لعبة الموت المجانى ، ويديرون حوارا صادقا لبناء دولة وجيش موحد ، والتوصل إلى تسوية لتفاقمات الوضع السياسى المعتل قبل الزلزال وبعده ، من يدرى ؟ ربما ترى النفوس الطيبة بعد أهوال الزلازل الطبيعية ، حقيقة ما جرى لسوريا وطنا وشعبا ، فلا حيلة لأحد فى أقدار وزلازل الطبيعة ، لكن حيل البشر مؤثرة فى غيرها ، وربما يكون ما جرى دافعا لتحرك إيجابى ما ، يأتى من السوريين المخلصين فى كافة أطياف السياسة ، خصوصا أن أطرافا منسوبة للمعارضة السورية مرتبطة بالسياسة التركية ، التى بدأت قبل شهور فى التحرك باتجاه نظام دمشق ، والسعى لإجراء مصالحات برعاية موسكو ، وربما تكون الزلازل التى جمعت بصلات الجغرافيا بين تركيا وسوريا فى المحنة الكبرى دافعا إضافيا ، يقود النوايا التصالحية فى طرق سالكة أكثر ، خاصة مع تطور المصالحات بين أنقرة وعواصم عربية عدة ، يميل أغلبها إلى إعادة النظام السورى لمقعده الفارغ فى الجامعة العربية ، وربما لا تشترط سوى إتمام حوار جدى ناجز بين الحكومة السورية ومعارضاتها ، قد تتمكن أطراف عربية من المساهمة فيه ، وقد يكون من أثر للتغيرات الجارية عند قمة المشهد الدولى ، ولجوء أطراف عربية مؤثرة لحياد إيجابى فى وقائع حرب أوكرانيا ، يبعدها قليلا أو كثيرا عن الانصياع لإملاءات واشنطن ، ويفكك قبضتها الشريرة على أعناق النظم العربية ، التى يسعى بعضها إلى حرية حركة أكبر ، وإلى استكشاف مصالحها الذاتية ، وإلى البحث عن تسويات مع جوارها الإيرانى والتركى ، بدلا من مواصلة السير الأعمى وراء حروب ومصالح وأولويات واشنطن وتل أبيب ، وإعادة ترتيب أوراق البيت العربى ، وتغليب لغة التضامن على انفلات الخلافات والأزمات ، وبالذات بعد ما بدا من عودة وصحوة النزعة القومية العربية عند القواعد الشعبية ، وغلبتها على ما عداها من صور الهوان الطويل ، وعلى نحو ما رأيناه فى مشاعر الجمهور العربى على هوامش مباريات مونديال “قطر” الكروى ، وفى مشاعر التعاطف المتدفق مع سوريا فى محنة الزلازل الأخيرة ، وكلها تلتف حول قضية فلسطين ومقاومتها الجسورة لوحشية كيان الاحتلال ، ثم حول استعادة سلامة الأقطار العربية المحطمة ، وبينها سوريا وعذاباتها ، وعشرات ملايين لاجئيها ونازحيها والمقيمين فيها ، وهذه “الفزعة” الشعبية العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج ، ربما تكون أول عناصر التأثير فى مواقف النظم الحاكمة ، ولو على سبيل التظاهر بمصالحة شعوبها ، فقد تكون أوضاع الاستبداد وكبت الآراء هى الغالبة فى منطقتنا ، لكن الآراء الحرة تجد سبلها برغم القمع ، وتفتح براحا متاحا عبر وسائط التواصل الاجتماعى الإلكترونى ، وتخلق نوعا من قوة الرأى العام المرئية ، وبالذات عند توالى المحن والكوارث ، التى تلحق بأى شعب عربى ، وعلى طريقة ما جرى ويجرى فى موجة تضامن فطرى وقومى تلقائى مع المنكوبين ، وبعيدا عن حملات الدس والوقيعة وفتن الذباب الإلكترونى ، ولو أرادت النظم العربية أن تفعل شيئا لفعلت فى الملف السورى ، فقد تأخرت وغابت طويلا ، وربما تأتى متأخرة ، فذلك أفضل من ألا تأتى أبدا ، وقد يكون الزلزال وتوابعه نوعا من الإشارات السماوية الهادية للغافلين ، فالتضامن الحقيقى مع سوريا ، يعنى أن نمد اليد لسوريا ، ومن دون أن يعنى ذلك تعصبا ولا انحيازا لطرف بعينه فى غابات الحطام السورى ، هذا إن أردنا أن تعود سوريا لعروبتها ، لا أن تظل غنيمة للأجانب وملاعب دم لبنيها ، ومن دون أن يعنى ذلك تعصبا للقومية العربية دون سواها ، خصوصا من الإخوة الأتراك ضحايا الزلازل المدمرة ، وقد كان سلوكا حسنا من حكام عرب ، أن جمعوا فى اتصالات التضامن والمواساة بين سوريا وتركيا ، فالحكام زائلون والشعوب باقية ، ولا يصح اختزال شعب فى حاكم بعينه ، وهو ما سبق إليه الشعور الفطرى الإنسانى عند الناس العرب العاديين ، وإعلاء تضامنهم مع الشعب التركى ، ودونما ارتباط بأى آثار سياسية واردة لنكبة الزلزال الأخطر فى تاريخ تركيا الحديث ، التى تنتظر جولة انتخابات رئاسية استثنائية ، قد تتأخر مواعيدها مع الظروف الطارئة ، فاختيار من يحكم تركيا ، هو حق وواجب الشعب التركى وحده ، وذاكرة الشعوب ووجدانها الجمعى لا ينسى ، ومساهمة العرب فى دعم الأتراك بالمحنة ، تعنى ما هو أبقى من بقاء حاكم أو ذهابه ، وكثيرا ما أعقبت الكوارث الطبيعية تغيرات فى السياسة ، وعلى نحو ما جرى بعد آخر زلزال كبير سابق عام 1999 ، وسقوط 17 ألف قتيل وقتها ، وتغيرات المشهد التركى فى أعقابه ، لكن ما يهمنا أولا وأخيرا فى المسألة التركية ، أن تبقى الصلات مع شعبها متينة وأخوية وصادقة ، تماما كما نتمنى أن تكون الصلات مع الشعوب الإيرانية ، التى من حقها وحدها وحصرا ، أن تغير نظامها أو أن تبقيه ، ولكن من دون توحش النفوذ الإيرانى على حسابنا ، ونشر التعصب الطائفى والعنصرى المقيت .
[email protected]