مقالات كبار الكتاب

د. محمد الخشت يكتب … الأقتصاد بين الخطاب الديني القديم والجديد (3)

كتب د. محمد عثمان الخشت
أستاذ فلسفة الدين- رئيس جامعة القاهرة- عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية

“يسيطر على الناس في الخطاب الديني القديم الموازي للنظام الاقتصادي الريعي، مفهوم غير دقيق حول معنى “العمل الصالح”؛ حيث يعني العمل الصالح (العبادات الطقوسية والإخلاص فيها).. وباستعراض بعض التفاسير المرجعية في التراث، نجد هذا هو المعنى الغالب والأكثر شيوعا، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره البغوي في تفسيره: “وقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ذِكْرُ اللَّهِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ أَدَاءُ فَرَائِضِهِ، فَمِنْ ذَكَرَ اللَّهَ وَلَمْ يُؤَدِّ فَرَائِضَهُ، رُدَّ كَلَامُهُ عَلَى عَمَلِهِ”، (انظر: معالم التنزيل في تفسير القرآن، طبعة طيبة 6/ 415).
وذكر الطبري في تفسيره عن: “ابن عباس قوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيْبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، قال: “الكلام الطيب: ذكر الله، والعمل الصالح: أداء فرائضه، فمن ذكر الله سبحانه في أداء فرائضه، حمل عليه ذكر الله فصعد به إلى الله، ومن ذكر الله، ولم يؤد فرائضه، رد كلامه على عمله فكان أولى به”، (تفسير الطبري، جامع البيان، تحقيق شاكر، 20/ 445).
وهو ما ذهب إليه الثعلبي في تفسيره، قال: “وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ: أداء فرائضه”، (تفسير الثعلبي، الكشف والبيان عن تفسير القرآن، 8/ 101).
وذهب إليه أيضا الواحدي، قال: “والعمل الصَّالح: أداء فرائضه، فمن كان حسناً وعمل صالحا،ً رفعه العمل”، (الوجيز للواحدي، ص: 890).
وهناك تفسير آخر للعمل الصالح يدور حول الإخلاص في العبادة، ذكره بعض المفسرين مثل الطبري عند تفسير الآية الكريمة: (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف، 110). يقول: “فمن يخاف ربه يوم لقائه، ويراقبه على معاصيه، ويرجو ثوابه على طاعته (فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا)، يقول: فليخلص له العبادة، وليفرد له الربوبية”، (تفسير الطبري، جامع البيان ت شاكر، 18/ 135).
وأورد الثعلبي” وقيل: العمل الصالح هو الخالص، يعني أنّ الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأعمال، دليله قوله: (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً)، أي خالصا، ثم قال: (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)، فجعل نقيض الصالح الشرك والرياء”، (تفسير الثعلبي، الكشف والبيان عن تفسير القرآن، 8/ 102).
وهناك تفسيرات أخرى، لا تجد من بينها من يذكر في تفسير هذه الآيات الكريمة، أن العمل الصالح يتسع للأعمال الدنيوية المفيدة أو الإبداعية أو الابتكارية أو الصناعية أو الزراعية أو الإنتاجية بشكل عام.
وغني عن البيان أن نقد اقتصار مفهوم العمل الصالح على العبادات الطقوسية والإخلاص فيها، ليس معناه التقليل من شأن العبادات، فهي من أركان الدين وثوابته، بل المقصود بالنقد هو نقد فهم البعض الذين يضيقون مفهوم العمل الصالح ويقصرونه على العبادات الطقوسية والإخلاص فيها فقط؛ فمفهوم العمل الصالح يتسع لأعمال كثيرة بالإضافة إلى تلك العبادات الطقوسية. كما أن مفهوم ” الكلم الطيب” يتسع لمعان أكثر من الذكر والدعاء.
وما تلك التفسيرات التي تحصر مفهوم “العمل الصالح” في العبادات الطقوسية والإخلاص فيها فقط، سوى انعكاس للاقتصاد الريعي القائم على الانتظار والتواكل وهبة السماء وما تجود به الطبيعة من جهة، وعمليات التداول والتجارة من جهة ثانية، والغنيمة والفيء من جهة ثالثة. ولم يكن الاقتصاد الإنتاجي بما فيه من تصنيع وقيمة مضافة ذا حضور في الثقافة الحاكمة للناس في فهمهم للدين. ولذا تجدهم يسقطون أفكارهم وثقافة زمانهم على النصوص الدينية.
ولا ينقض هذا الحكم العام استثناءات وحالات محدودة تعي أهمية العمل الدنيوي الإنتاجي، فنحن نتحدث عن الاقتصاد الكلي المسيطر على المناخ العام والناتج المحلي الإجمالي والبنية الثقافية المسيطرة.
ولا شك أنه كانت توجد صناعات محدودة في القرون التي ظهرت فيها تلك التفاسير، لكنها لا تشكل رقما ونسبة يمكن أن نخرج بها عن الحكم العام بأن الاقتصاد المسيطر هو الاقتصاد الريعي.
ومن أسف فإن هذا الحكم الذي ينطبق على القرون الماضية لا يزال ساريا على كل الاقتصاديات الريعية الحالية المسيطر عليها الخطاب الديني التقليدي الذي ينتظر الحل دوما من الأعلى أو من الخارج، ولا تعمل فيه الناس وفق نظام إنتاجي تصنيعي زراعي، لأنهم ينتظرون الحل دوما من السماء أو من المخلص، ووسيلتهم في ذلك هي العبادة الطقوسية وحدها. ولذا تجد النسبة الأعلى للاستيراد في اقتصادياتهم، وتجد دوما أن الميزان التجاري الذي يحدد الفرق بين مجموع قيمة الصادرات ومجموع قيمة الواردات، تكون فيه الواردات أكبر من الصادرات.
ويبقى السؤال: إذا كان مفهوم “العمل الصالح” مفهوما ضيقا في التفاسير التي شرحت معناه في القديم وفهمت النص الكريم فهما محدودا في ضوء ثقافة عصرها وسياقه الاقتصادي الريعي، فهل النص الكريم تتسع ألفاظه ومقاصده لمعنى أشمل يتسع فيه مفهوم “العمل الصالح” في سياق ثقافة عصرنا وسياق الاقتصاد الإنتاجي؟ نسأل القدير أن تكون الإجابة في المقال القادم”.
د. محمد الخشت
أستاذ فلسفة الدين- رئيس جامعة القاهرة-
عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
بواسطة دكنور محمد الخشت … نشر في جريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى