مقالات كبار الكتاب

نائب هتلر فى طنطا.. رودولف هيس من النازية إلى الرماد

أحمد المسلمانى

كان هتلر طاغيةً إلى الحدّ الذى غطّى فيه على كل شىء، وعلى كل شخص. إنّ معظم العالم لا يعرف من أركان النظام النازى -الذى تسبب فى أكبر حرب فى التاريخ- سوى اسم أدولف هتلر وحده، ولا أحد سواه.

حتى نائب هتلر وهو «رودولف هيس» ليس معروفاً للكثيرين خارج ألمانيا. ومن الطبيعى أن يكون أول ما يتبادر إلى الذهن: وهل كان هناك نائب لهتلر؟ وماذا كان دوره؟ وكيف مضى مصيره؟

من المثير أن نائب هتلر «رودولف هيس» قد ولد فى مصر، وتعلّم فيها معظم سنوات ما قبل الجامعة. ثم إنّه زارها بعد ذلك، وكان يجيد اللغة العربية باللهجة الريفية السائدة فى محافظة الغربية.

فى أواخر القرن التاسع عشر جاء والد «هيس إلى مصر، بحثاً عن فرصة أفضل فى الاستثمار وجمع المال. وقد أقام «الخواجة هيس» مع زوجته فى مدينة الإسكندرية. وفى عام 1894 ولد ابنه «رودولف هيس» فى حىّ الإبراهيمية.

التحق «رودولف» بالمدرسة الألمانية بالإسكندرية، وأصبح طفلاً سكندرياً عولمياً، حيث كانت الإسكندرية تشبه نيويورك المعاصرة فى تنوعها الاجتماعى والثقافى، وعالمية حضورها.

لكنّ «والتر هيس» والد «رودولف» لم يتمكن من تحقيق أهدافه الرأسمالية فى الإسكندرية، فاختار الذهاب إلى محافظة الغربية للعمل والإقامة بها. وقد كانت هناك جالية ألمانية فى زفتى فى ذلك الوقت.

أقام «والتر هيس» فى مدينة زفتى، حيث أسس منزلاً حديثاً، واشترى «فدانيْن» من أراضى المدينة، أقام عليهما ورشة كبيرة لصناعة وإصلاح الآلات الزراعية، وآلات النسيج. كما امتلك وابوريْن للطحين، وعزبةً فى محيط قرية «كفر الجنيدى» كانت تسمى «عزبة هيس»، واسمها الحالى «عزبة هيت».

يشير باحثون إلى أن هناك وثائق تتعلق بأملاك والد نائب هتلر، لا تزال فى حوزة مجلس مدينة زفتى.. منها خريطة مرسومة باليد للأرض المقامة عليها الورشة، ومنها رفض المدينة طلب والد هيس بناء سور حول الورشة.

وقد سمعتُ من أحفاد أشخاص تعاملوا مع عائلة هيس فى محافظة الغربية، أن «رودولف هيس» كان مولعاً بمدينة طنطا، وكانت له صداقات واسعة بها، وعلى الرغم من استقرار الأسرة فى زفتى كان رودولف يزور طنطا بانتظام، وقد طلب من والده بحث إمكانية الانتقال إليها، مع بقاء الأملاك فى زفتى.

كان نائب هتلر «رودولف هيس» فى السادسة عشرة من عمره حين غادر مصر عام 1910، لكنه عاد لقضاء إجازة الصيف عام 1912. ولمّا صادرت السلطات البريطانية فى مصر ممتلكات والده عام 1914 إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى، عاد «رودولف هيس» إلى زفتى عام 1925 حيث نجح فى إلغاء المصادرة واسترداد الممتلكات.

وفى عام 1934 رأى «هيس الأب» أنه من الأنسب أن يغادر لاسيما بعد أن أصبح ابنه الشخص الأقرب إلى الزعيم الألمانى الجديد «أدولف هتلر» الذى تولى السلطة قبل عام. باعَ «هيس الأب» أملاكه فى زفتى للحاج «إبراهيم الفخرانى» الذى كان رئيس العمال، والمساعد الأول لوالتر هيس.

عاد «هيس الأب» إلى ألمانيا، لكنه لم يمكث كثيراً، حيث سرعان ما عاد إلى الإسكندرية ليعيش فيها مع زوجته من جديد. وقد ظل «آل هيس» فى الإسكندرية حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، وتصاعد التضييق البريطانى على الألمان حول العالم.

كان «رودولف هيس» نائباً لـ«هتلر» فى تلك الأثناء، وقد أرسل إلى أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء يطلب مساعدته. ويقول مؤرخون إنه أرسل رسالةً إلى ماهر باشا عبر صديقه «كمال الدين جلال» جاء فيها: «إنك تعرف أنّنى ولدت فى مصر، وأننى أحب مصر والمصريين. وأملى أن تسهل الحكومة المصرية سفر والدى ووالدتى، وكذلك بعض الألمان الذين احتجزتهم الحرب». وقد استجاب ماهر باشا لطلب نائب هتلر، وأرسل عائلته على متن سفينة غادرت الإسكندرية بعد أيام.

كان «رودولف هيس» قريباً فى هذه السنوات من السفير المصرى فى برلين حسن نشأت باشا، وتوجد صورة لهما وهما يتحدثان فى إحدى المناسبات فى برلين عام 1938، فيما تبدو الصداقة قوية بينهما.

شهدَ «والد هيس» -والد نائب هتلر- فى سنوات وجوده فى زفتى تصاعد الحركة الوطنية المصرية ضد الاستعمار البريطانى، حيث كانت مدينة زفتى عنواناً على البطولة والنضال فى أثناء ثورة 1919.

كانت مصر قد جرى احتلالها رسمياً من قبل بريطانيا عام 1914، ولمّا لم تجد مصر من القوى الدولية استجابة لمطالبها بالاستقلال بعد نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، قامت ثورة 1919 بقيادة الزعيم سعد زغلول.

لمّا جرى نفى الزعيم إلى جزر سيشل، اندلعت المظاهرات، بينما أعلنت النخبة المثقفة فى مدينة زفتى بقيادة «يوسف الجندى» الاستقلال، وهى تجربة مثيرة دخلت التاريخ باسم «جمهورية زفتى».

قرر الاحتلال البريطانى إسقاط جمهورية زفتى، فأرسل قوات كثيفة لاقتحام المدينة. ولكنها ووجهت بمقاومة باسلة وصمود صلب، فعادت القوات البريطانية إلى مدينة ميت غمر، لتستعد لجولة جديدة، ولكنها ووجهت مرة أخرى بمقاومة باسلة من أهالى ميت غمر.

اغتاظ البريطانيون من ذلك المقصّ بين ميت غمر وزفتى، وراحوا يرددون «ما أسوأ من زفتى إلاّ ميت غمر» وهو من أشهر الأمثلة الاستعمارية التى رددها الإنجليز طويلاً، وهو مثل دالّ على عظمة المدينتيْن، وبطولة أبنائهما.

كانت عائلة «إبراهيم الفخرانى» -الذى اشترى أملاك هيس- من بين العائلات التى شاركت فى إعلان «جمهورية زفتى». وربما كانت مصادرة السلطات البريطانية لممتلكات «والد هيس»، ومعايشته ثورة 1919، وإعلان جمهورية زفتى.. من بين أسباب الحنق الذى حمله «رودولف هيس» تجاه بريطانيا، التى وصفها بعد مصادرة أموال العائلة بأنها «دولة قراصنة». وفى تقدير البعض فإن موقف «هتلر» من بريطانيا، كان متأثراً فيه برأى هيس، ذلك أن رودولف هيس كان إلى جانب هتلر فى السجن، وهو من أملى عليه هتلر كتابه «كفاحى».

بينما كان «والد هيس» يعيش أحداث «جمهورية زفتى» فى مصر، كان ابنه «رودولف هيس» يدرس فى جامعة ميونخ، وهناك تأثر بأستاذ له فى الجغرافيا السياسية، كان يرى أنه يجب على ألمانيا أن تتوسع شرقاً، وأن تسيطر على شرق أوروبا.

ومرة أخرى.. يرى مؤرخون أن أستاذ «رودولف هيس» فى جامعة ميونخ، هو الذى أقنعه بضرورة توسُّع ألمانيا، وأن «هيس» هو من أقنع -بدوره- أدولف هتلر بما اقتنع. فبعد عام واحد من دراسته فى جامعة ميونخ 1919 التقى هيس بأدولف هتلر عام 1920، فانضم للحزب النازى، وأصبح منذ ذلك الحين متفانياً فى خدمة هتلر.. قولاً وعملاً.

فبالإضافة إلى تأييده ومديحه والحشد له، شارك «هيس» فى محاولة الانقلاب الفاشلة التى قادها هتلر عام 1923.. وهى المحاولة المعروفة باسم «بيرل هول» التى انتهت بهروب هتلر، ثم إيداعه السجن خمس سنوات، قبل أن يصدر عفو بشأنه، ليخرج فى 1924.. بعد أقل من عام على دخوله السجن.

كانت «جمهورية فايمار» فى ألمانيا التى بدأت عام 1919 فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، تواجه صعوبات عديدة فى السياسة والاقتصاد والمكانة. على الرغم من أنها كانت جمهورية ديمقراطية تمتلك دستوراً متميزاً، ورؤية حضارية عاقلة.

انتصرت الصعوبات على الجمهورية، وقضتْ النازية على الديمقراطية. وفى عام 1933 أصبح «هتلر» الإمبراطور الجديد للبلاد، واستعاد لألمانيا اسم «الرايخ» وهى كلمة ألمانية تعنى «الإمبراطورية».

كان «رودولف هيس» الذى عمل سكرتيراً، ثم مساعداً، ثم نائباً لهتلر، لا يناقش ولا يجادل فيما يخصّ الزعيم. وهو ما دفع البعض فى الحزب النازى لأنْ يطلق عليه اسم «الفأر البنىّ» ذلك الذى يسمع الأوامر، ويطيع من دون تردد، ثم إنه ينفذ ذلك بلا رأفة، ولا قلب.

أصبح «رودولف هيس» عنواناً على كل شىء سيئ، فهو القاتل، ومجرم الحرب، وهو من أدار العديد من عمليات القتل الجماعى، لاسيما مقتل أعداد هائلة من اليهود. وفى أثناء محاكمته فى «نورمبرج» اعترف بجرائم الإبادة المروعة فى معسكر «أوشفيتز» الشهير.

فى مايو 1941 قام «رودولف هيس» بواحدة من أغرب وقائع الحرب العالمية الثانية. كانت الحرب بين ألمانيا وبريطانيا عنيفة للغاية، وكان القصف الألمانى لبريطانيا لا ينقطع. وفى هذه الأجواء قام «هيس» بهذه الخطوة الغريبة، وهى أيضاً الخطوة الأخيرة. إذْ لم يخطُ بعد ذلك خطوةً واحدة خارج السجن.

استقلّ «رودولف هيس» طائرة عسكرية ألمانية، وخرج فى أثناء الليل قاصداً بريطانيا. وبعد خمس ساعات ونصف الساعة وصل نائب هتلر إلى المكان المقصود فى اسكتلندا.

هبط «هيس» من الطائرة بالمظلّة، بينما ترك طائرته تتحطم فى أحد الحقول. التقط أحد المزارعين الزائر الألمانى الذى هبط من السماء، ولما تسلمته الشرطة طلب لقاء اللورد هاميلتون الذى كان من أبرز شخصيات بريطانيا، وكان يحتل منصباً عسكرياً رفيعاً.

كشف «هيس» عن شخصيته أمام اللورد هاميلتون، وذكّره بلقائهما فى أولمبياد برلين 1934 بحضور هتلر. ما هو معروف -حتى اللحظة- أن «هيس» أراد عقد سلام ألمانى بريطانى، شريطة مغادرة تشرشل السلطة، وتولى رئيس وزراء بريطانى آخر ليوقع الصلح مع هتلر.

أمر «ونستون تشرشل» بحبس «هيس» وظلَّ نائب هتلر فى الحبس، حتى انتهت الحرب العالمية الثانية، وانهزمت ألمانيا، فتمت محاكمته، ونال عقوبة السجن مدى الحياة.

أنكر «هتلر» أنه أرسل «هيس» إلى بريطانيا، ولم تفرج لندن عن أية وثائق بهذا الصدد حتى اليوم، وفى مايو 2021 انتقد «سيرجى ناريشكين» مدير جهاز الاستخبارات الروسية عدم كشف لندن عن أية وثائق لأنها ربما تدينها.. فى مسألة دفع بريطانيا لألمانيا النازية للقيام بمهاجمة الاتحاد السوفيتى.

يذهب البعض إلى أن الاستخبارات البريطانية هى التى زرعت أحد العرّافين فى طريق هيس، حتى قرأ له الطالع ذات يوم، وأبلغه بأنّه سيكون له دور تاريخى مهم إذا سعى إلى السلام.. وأن «النبوءة المخطّطة» للعرّاف.. هى التى دفعته للذهاب إلى بريطانيا.

لدى بريطانيا أسرار القصة كلها، ولكن ما هو معروف للعالم هو أن ما جرى كان مغامرة غامضة.. من سياسى غامض فى لحظة عصيبة ومعقدّة.

من سجن فى بريطانيا إلى سجن فى برلين.. قضى «رودولف هيس» حياته حتى رحل عام 1987 عن (93) عاماً.

كانت حراسة مشددة من الدول الأربع: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى وبريطانيا وفرنسا، تتناوب كل ثلاثة أشهر على زنزانة «هيس».. ما جعل الصحافة تُلقبه بأنه «أغلى سجين فى العالم».

ولما «انتحر» هيس عام 1987 فى سجنه فى برلين، قالت أسرته إنه لم ينتحر، وقال «النازيون الجدد»: إن الحرّاس البريطانيون قاموا بقتله. أمّا طبيب هيس فقد قال إن الجثمان الذى رآه ليس جثمان هيس، وإنه جثمانٌ لشخص آخر.

فى عام 2019 -وبعد أكثر من ثلاثين عاماً- أعلن فريق علمى من جامعة سالزبورغ النمساوية أن الجثمان يعود إلى «رودولف هيس» بناء على فحص عينة من دمه، كانت موجودة لدى مركز طبى عسكرى فى الولايات المتحدة، وفحص الحمض النووى لأحد أحفاده.

أصبح «رودولف هيس» رمزاً للنازيين الجُدد، ذلك أنه لم يعلن «التوبة» عن النازية، وقال: «لست نادماً على شىء»، وواصل «هيس» تكرار مقولات من الأوهام النازية.

بدأ النازيون الجدد يزورون قبر «رودولف هيس»، وفى عام 2005 زاد عددهم على الخمسة آلاف شخص. وكان ذلك مصدر ضيق فى المدينة التى تضم رفاته فى بافاريا، ومصدر قلقٍ للشعب الألمانى. وفى يونيو 2011 قامت السلطات الألمانية بإزالة قبر «رودولف هيس» تماماً، وتم حرق جثمانه، وإلقاء رماده فى البحر.

فى عام 2013 تحدثت «بريجيتا هيس» ابنة «رودولف هيس» إلى صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، وبرَّأت والدها، وقالت إنه اعترف بجرائم تحت الضغط. وطلبت «بريجيتا» التى تعيش فى واشنطن عدم ذكر اسمها الحالى أو عنوانها، خوفاً من أى اعتداءات.

إنّ حديث «بريجيتا هيس» لا وزن له، وهو بلا قيمة علمية أو تاريخية، ولا تزيد معلوماتها عن كونها ابنة هيس وبعض المعلومات العائلية. وقد جاء حديثها شأن أى حديثٍ لابنة عن والدها.. حيث الكثير من العاطفة والقليل من المعرفة.

لم ينشأ هتلر ولا نائبه فى ألمانيا، فقد نشأ هتلر فى النمسا، ونشأ هيس فى مصر. ولكنهما معاً، ومع آخرين.. شاركوا فى أكبر كارثة حلّت بالإنسانية.. حيث قتل أكثر من (70) مليون إنسان فى الحرب العالمية الثانية، كما انهارت الحياة فى معظم بلاد العالم.

رحل «الفأر البنىّ» غير مأسوفٍ عليه، فالثروة من مصر، والسلطة فى ألمانيا.. قد انتهت إلى شخص رفض أن يمنح بلاده الأمن، فرفضت بلاده أن تمنحه القبر. وبعد أن كان يأمر بحرق الأحياء الأبرياء، جرى حرق جثمانه وإلقاؤه فى البحر.

يخطئ النازيون الجدد إذْ يتصورون أن التاريخ يمكن أن يعود، لا يجب إحياء الكراهية، أو استدعاء الموت.. لا يجب لأمثال «رودولف هيس» أن يجدوا فرصة ثانية فى عالمنا، لدى العالم ما يكفى من الفقر والمرض.

لقد انتهى عصر «الفئران البنيّة».. ولا يجب أن يعود.

بواسطة أحمد المسلمانى … نشر في موقع الوطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى