مقالات كبار الكتاب

دكتور الخشت يكتب …ضد التصور الأسطوري للمرأة (20)

د. محمد عثمان الخشت … أستاذ فلسفة الدين- رئيس جامعة القاهرة

“لا ينفصل نقد التصورات الأسطورية للمرأة، عن اتجاهنا نحو إقرار “مبدأ الإنصاف” كأساس وكغاية في الوقت نفسه. كما لا ينفصل نقد التصورات الأسطورية للمرأة عن “النزعة الإنسانية” الخالية من التفكير الأسطوري بوصفه تفكيرا غير علمي يضلل الإنسان عن رؤية العالم رؤية منضبطة. كما لا ينفصل نقد التصورات الأسطورية للمرأة عن إصلاح تصوراتنا عن “سلم أولويات حقوق الإنسان”، وإصلاح تصوراتنا عن “مفهوم الحياة الآمنة” كمطلب يعلو أي مطلب. وكل هذا وغيره مرتبط ارتباطا جذريا بإصلاح طرق التفكير كشرط مسبق يسبق أية عملية انتقال نحو مجتمع أفضل. ومن ثم يؤدي كل هذا إلى إعلاء “التفكير النقدي” كمنهج حاكم لطرقنا في التفكير؛ من أجل بناء دولة حديثة تصنع تاريخا جديدا.

إن الإيمان بمبدأ الإنصاف، جزء لا يتجزأ من نقد التصورات الأسطورية ضد المرأة، وهو نابع من إيماننا العام بحقوق الإنسان، بل وحقوق كل الكائنات؛ والإنصاف مبدأ بدهي لا يحتاج إلى البرهنة عليه، والإنصاف مبدأ تؤمن به كل نفس مستقيمة، وتؤمن به كل دولة تريد أن تؤسس ملكها على قواعد راسخة.

إن اتجاهنا نحو الإنسانية بمفهومها الشامل، هو أحد أهم الأسباب التي تدعو إلى الاحتفاء بتحول مصر إلى دولة منصفة للمرأة، وإلى حرم آمن للجميع: نساء ورجالا. إن الشعور بالأمن على أرض الوطن، هو المطلب الأول في الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان بالمعنى الشامل الذي يضمن للإنسان حقه أولاً في الحياة وأن تكون هذه الحياة حياة كريمة، ومن هنا كان شعارنا في جامعة القاهرة، وفي حدود الدائرة القريبة التي نعمل بها، هو حرم آمن للجميع.

ونحن الآن في مربع آخر، سواء على مستوى الحرم الجامعي أو على مستوى حرم الوطن الكبير الذي نعيش فيه. إن مصر الآن أصبحت دولة آمنة يستطيع الإنسان أن يسير في أي مكان، وأن يجلس في أي مكان وهو آمن. إن هذه مسألة بالغة الأهمية، حيث يبقى الأمن هو المطلب الأول للإنسان، بل لأي كائن حي. وهذا ما نجده في الغرائز الإنسانية والحيوانية، فالغريزة الأولى هي غريزة البقاء والحفاظ على الذات Self-preservation، ومن هنا فالأمن هو المطلب الأول. وفي حالة تعرض الكائن الحي لما يهدد ذاته، فسوف تعلو غريزة “الحفاظ على الذات” على أية غريزة أخرى، مثل الجوع والعطش والجنس. وعلى سبيل المثال عندما تكون جائعا أو تشعر بغريزة من الغرائز ثم تجد حيوانا مفترسا يريد أن يلتهمك هل سوف تفكر في الأكل أو الشرب أو في أية غريزة أخرى أم سيكون المطلب الأول لك هو أن تؤمن حياتك؟

ومن هنا جاء احتفاؤنا بتحول الحرم الجامعي والحرم المصري عامة، إلى حرم آمن. ومفهوم الأمن هنا هو الأمن بمعناه الشامل الذي يشمل: الحفاظ على الحياة، والحفاظ على العقل، والحفاظ على حرية المعتقد، والحفاظ على العرض أو النسل أو النسب، والحفاظ على المال. وهذا المفهوم الشامل تجده في إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، كما تجده في علم أصول الفقه مستنبطا من نصوص القرآن الكريم، وهو ما يُعرف بالضروريات الخمس: “حفظ النفس، والعقل، والدين، العرض، والمال” ويختلف ترتيب هذه الأولويات باختلاف علماء الأصول، كما قد تختلف بعض مفرداتها.

وهذا هو المطلب الأول في حقوق الإنسان الذي يعلو على أي مطلب آخر. ومن هنا كان المشروع المشترك مع الاتحاد الأوروبي ومع المجلس الثقافي البريطاني والسفارة البريطانية، لتحقيق حرم جامعي آمن، ومن هنا كان نجاح “وحدة مناهضة العنف ضد المرأة”. ومن هنا كانت الجهود لتغيير أفكارنا عن المرأة. وهذه الجهود لن تتوقف؛ فالارتقاء والتطور لا يقف عند حد، ولايزال يتطور الإنسان وتتطور أفكاره وتصوراته ورؤيته للعالم حتى تأتي نهاية العالم، لايزال أمامنا الكثير، ولايزال أمامنا ذكريات سعيدة نرجو أن نصنعها معا في المستقبل.

إن التحديات لا تزال أمامنا، من أجل إنصاف المرأة ومن أجل إنصاف الإنسان عامة. وأكبر التحديات هي تغيير أفكارنا؛ لأن الفكر أساس السلوك، وكل عمليات تطور الإنسانية ذاتها عبر تاريخها كانت مرتبطة بتغيير الأفكار وتطورها. ومن هنا فإننا سوف نواصل هذا التغيير، سواء عند أنفسنا أو عند زملائنا أو عند طلابنا. ونحن ندرك أهمية معركة تغيير الأفكار على درب تطوير الوعي وليس على درب استعادة الوعي. إن استعادة الوعي معناها أننا نريد أن نعود إلى مرحلة سابقة في التاريخ. بينما هدفنا أن نتقدم إلى الأمام لصناعة مرحلة تاريخية جديدة أعلى من أي مرحلة في الماضي. وهذا هو الفرق بين من ينظرون إلى الوراء لاستعادة الماضي، وبين من ينظرون إلى الإمام فيصنعون المستقبل.

ولقد أدرك جبران خليل جبران هذا الصراع بين القديم والجديد، عندما قال في كتابه (البدائع والطرائف):
“في الشرق اليوم فكرتان متصارعتان: فكرة قديمة وفكرة جديدة، أما الفكرة القديمة
فستُغلب على أمرها؛ لأنها منهوكة القوى محلولة العزم.

وفي الشرق يقظة تراود النوم؛ واليقظة قاهرة لأن الشمس قائدها والفجر جيشها.
وفي حقول الشرق، ولقد كان الشرق بالأمس جبَّانة واسعة الأرجاء، يقف اليوم فتى
الربيع مناديًا سكان الأجداث ليَهُبُّوا ويسيروا مع الأيام. وإذا ما أنشد الربيع أغنيته، بعث
مصروع الشتاء وخلع أكفانه

إن ما قاله جبران خليل جبران يتعلق بعملية التقدم بشكل عام، ولا عام بدون خاص، ولا خاص بدون عام. ولذا فإصلاح تصوراتنا عن المرأة جزء لا يتجزأ من الصراع بين القديد والجديد، وركن من أركان إصلاح تصوراتنا العامة.

وعلى هذا الأساس الإصلاحي العام، جاءت “وثيقة التنوير” في جامعة القاهرة، وعلى هذا الأساس العام أيضا جاء مقرر “التفكير النقدي” على كل طلاب الجامعة كمقرر وجوبي لإزاحة التصورات الأسطورية عامة، ومنها التصور الأسطوري للمرأة. وكانت جامعة القاهرة هي أول جامعة تقرر التفكير النقدي في الشرق الأوسط. ومن قبل ذلك كانت كليات الجامعة جزرا منعزلة لا يربط بين طلابها رابط فكري موحد من خلال مقررات دراسية مشتركة. والآن أصبح يوجد هذا الرابط الفكري. وبعد إعلاننا التفكير النقدي كمقرر دراسي على كل طلاب الجامعة، جاء بعد ذلك بشهور إعلان الاتحاد الأوربي أن التفكير النقدي له دور بارز في مناهضة أفكار التطرف والعنف والإرهاب”.

يارب
بواسطة د. محمد الخشت .. نشر في جريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى